قُتل سقراط مسمومًا، كما تعلمون, بعد محاكمته بتهمة الإلحاد وتجاهل الآلهة والطقوس المتبعة في العبادة، والإهانة للأماكن المقدسة, أما الفيلسوفة هيباتيا السكندرية أول امرأة يلمع اسمها كعالمة في الرياضيات والمنطق فقد قتلت أيضًا على يد مجموعة من الغوغاء المسيحيين بعد إدانتها بممارسة السحر والإلحاد والتسبب في اضطرابات دينية, وقد كانت حادثة سقراط في الحضارة الإغريقية القديمة والثانية في مصر الرومانية، هكذا أجبت على محدثي حينما سألني عنهما, فعقّب على كلامي قائلًا: هذه هي الحضارة الاغريقية والرومانية التي يتشدق بها الغرب, التزمت الصمت حيال هذا الاستنتاج ولم أرد عليه؛ لأني لست (الغرب) الذي يتحدث عنه أولًا, ولأني ما زلت مجروحة مما قرأته قبل أيام في الكيفية التي قتل بها أبو منصور الحلاج ثانيا, وحتى اللحظة ليس لديّ أي مبرر يمكن أن يقتل بها إنسان إنسانًا آخر بذلك المستوى العالي من الوحشية والبربرية، فبعد سجن الحلاج وضربه قُطّعت أطرافه الأربعة ثم قتل وجُزَّ رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في نهر دجلة ونصب رأسه على جسر بغداد, كل هذا لأن الرجل أحب الله على طريقته وعبّر عن هذا الحب بلغته لا بلغة غيره, والتهمة كانت جاهزة وتشبه - تمامًا - تهمة سقراط وهيباتيا نشر الهرطقة والإلحاد والاساءة للآلهة, وكأن الله – تعالى عن ذلك علوّا كبيرًا – يشبه الصنم الذي كانت تدافع عنه هند بنت عتبة, لا حول له ولا قوة وبحاجة في كل زمان ومكان لأن يدافع عنه مجموعة من الغوغاء والجهال.
لا فرق إذًا بين اولئك الوثنيين في أثينا وفي جزيرة العرب وبين المسيحيين في مصر و روما القديمة، وبين من يفترض بهم أن يكونوا "خير أمة أخرجت للناس" فيما يتعلق بتقديس التقليد والتبعية والعقل الجمعي ومصادرة حرية الفكر والتعبير سوى أنهم أتقنوا فنون القتل لمخالفيهم أكثر من غيرهم, حتى صار الذبح على الطريقة الاسلامية ماركة معروفة ورائجة وتتداول أخبارها وسائل الإعلام على مدار الساعة,
ولم يقتصر الأمر على محاكمة المخالفين لنا من الأديان والعقائد الأخرى بل تجاوز الأمر مداه حتى صرنا نتقاتل في إطار المذهب الواحد والبيت الواحد والانسان الواحد, وكأنما هي لعنة مشابهة لتلك اللعنة التي تطارد بني اسرائيل حتى يومنا هذا لتحريفهم الكلم عن مواضعه مع الفارق أننا نمارس كل هذا التناقض والمسخ الفكري والسلوكي في الحين الذي لا يزال القرآن بين ظهرانينا وقراءته في متناول أيدينا.
يقول لنا القرآن: "لا إكراه في الدين"، و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فنشهر سلاح القتل على شخص أخفق عقله وعجزت روحه عن الوصول لله, ونقدم الاسلام كنظرية بشرية تشتري ولاءاتها بالتكفير والتخويف من الذبح لمن ارتد عنها, ثم نطلب من الآخر أن يصدق أن هذا الدين يحترم العقل ولديه من أسباب القوة الروحية والمعنوية ما تجعله دينا خالدا، وإن كفر به جميع الناس !!
يجب أن نعترف أن تاريخنا أسود في ملف حرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير, وأن علماء الحقيقة قد تنحوا جانبا لصالح عوام العوام الذين صاروا يصيغون القيم الإنسانية العليا في الذهنية الاجتماعية والأجيال القادمة، وأننا كي نتمرد على عصابات الجهل والتخلف سندفع ثمنا غاليا قد لايكون بنفس الحجم الذي دفعه الحلاج، ولكنه لن يقل عن فتوى قد تفاجئك ذات صباح أفتى بها أحد عوام العوام بأنك (كافر) !!
أما الحلاج.. فأنا أعتذر لك يا سيدي حتى العظم، فقد كنتُ إلى فترة قريبة أحد الذين شاركوا في قتلك, دون أن أعرفك وأجلس إليك وأسمع منك ومن مريديك، وقبل كل ذلك لم أقرأ لك.
أعتذر لأني كنت يومًا لقمة سائغة لمنهجية "حدثني من أثق بدينه"، فصادرت عقلي لصالح (ثقة) ليس بثقة وصلبتك معهم.
أعتذر نيابة عن نفسي وتطهيرًا لها من زمن اعتبر الشعر والتصوف والعشق الإلهي ثلاث جرائم لا تغتفر بينما كل جريمة من هذه الجرائم كفيلة بأن تحول الإنسان الجسد إلى روح تسبح في ملكوت الله، وكلما وصلتْ إلى معنى أخذتها النشوة للصعود والترقي:
يا نسيم الروح قولي للرشا لم يزدني الوِرْدُ إلا عطشا !!