لم تكن الفتوى متصدرة في جيل الصحابة والتابعين لحرص صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن تبعهم على التقوى والخوف من الله لعلمهم بما يتعلق بالفتوى من أحكام شرعية دقيقة تتعلق بمراد الله تعالى ومراد رسوله من الأحكام المتعلقة بالنصوص، وكون الفتوى محاسب عليها المفتي أمام الله بما يستبيح بها من الأحكام المتعلقة بالحلال والحرام؛ لذا أزف جل الصحابة ومن تبعهم عن التصدر للفتوى أو التقوّل على الله بغير علم، فحينما تستجد بعض المسائل يرجع فيها لأكثر من صحابي، ومن عنده دليل محفوظ يؤخذ يمينه أو يأتي بشاهد يؤيد قوله؛ حرصًا على التحري والتدقيق في الفتوى، وفي كثير من الأحوال تمحص الفتوى فإما أن تقر أو تجمد، وذلك ما كان يفعله عمر وبعض الخلفاء الراشدين عندما تستجد بعض الوقائع التي يفتي فيها بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومن هنا يظهر مدى مسئولية الفتوى وخطورتها على الفرد والمجتمع، وما يتعلق بها من الإثم إذا صدرت عن هوى أو جهل أو تعصب، وغالبًا ما يدخل في هذا الشأن أمور يجب أن تكون في الحسبان عند التصدي للفتوى والتصدر لها، فالفاقد للشيء لا يعطيه، والجاهل الذي لا يبذل الوسع في تحقيق المناط المتعلق بالقواعد الأساسية التي تبنى عليها الفتوى إيجابًا وسلبًا لا يجوز له الإفتاء.
فنتيجة ضعف الوازع الديني، وضعف التقوى، وثوران الأحقاد، والتنازعات السياسية والحزبية، وشيوع الجهل، وتعدد الأهواء، وظهور النِّحل المنحرفة، واستلهام القيم الجاهلية، وتنوع الأفكار، وتعدد مشارب التثقيف، وبروز الجدل الفلسفي، وظهور المذاهب الفقهية والعقائدية، بالإضافة إلى ظهور الزندقة والحركات الباطنية الهدامة وبروز المفتين للحكام من المتصدرين للفتوى العاشقين للسلطة والجاه والشهرة فيفتون على تخريجات عليلة وآراء مذهبية شاذة أو يلوون النصوص الشرعية ليًّا بعيدًا عن دلالتها الشرعية، بل يتكئون على بعض الشواهد المبتورة، التي تكون أقرب إلى الابتسار والقطع للنصوص.. كل هذه العوامل المختلفة أدت إلى تعدد الفتوى وسلكت بالأمة إلى مستنقع التفتيت والتمييع.
لقد أشعلت الأهواء والتعصبات حربًا شعواء اقترنت بمدافع الفتوى الهائجة المتكئة على الهوى والتدليس، والمنتسبة إلى مرجعيات مختلفة تعتمد على تخريجات وهميّة تتنافى مع الحق، وتبعد عن الوجهة الصحيحة والمسار المعتدل، فهي تسلك المسلك المعقد في إصدار الفتوى الوهمية المنبثقة من ظلامية الفكر المغمور بأمواج الهوى، وتبدو بروقها تلمع في ليل دامس تصدر من سحب مجدبة تطوف على واقع مثقل بتركة الأنانية وحب الذات، وتنفرج عن عصبية حاقدة تثير براكين هائجة ترتفع نيرانها اللاهبة على زروع المحبة والأخوة، فتحصدها حصاد الهشيم، وتطرحها في لهيب الرمضاء المهلكة، فتجمع بين فتنتين: (لهيب الفتوى الحارقة، وجحيم الواقع المحترق بجفاف الأخلاق وجدب الأرواح المتصارعة، فيعمل دمارها الذي لا يبقي ولا يذر، ثم تمضي تقيم في شق مشلول يبعد عن روح الأمة في دائرة تضيق كثيرًا على سالكيها، فكيف تتسع لأمة تملأ الأرض بضجيجها القانت ويشغل سكانها رحابها الواسع.
تُعد الفتوى السياسية في تاريخ المسلمين من أخطر المشاكل التي تصدت لفطر سماء الألفة، وأتت على جامعة المسلمين تفرقها على ملاعق الشتات والفرقة وتضع الألغام القاتلة في صميم إرادتها فأحالت الرياض الغنّاء إلى صحراء بلقع، وأحرقت خضراء المسلمين بأنانية قاتلة، وذلك ناشئ من انفصام حدث في الفكر، فأمال الدوحة الباسقة إلى مشاجب الحكام والرؤساء فأخذت تلك التخريجات عند علماء السلطة تصدر عن إرادة الحاكم وتُغضب الخالق، فنتيجة التأثير على العلماء ومزاولة الإرهاب على أفكارهم بدأ العالم المقرب من الحاكم يصدر تلك الفتوى؛ يرضي بها الحاكم ويُغضب بها ربه، يقتل بها البريء ويحمي بها ذاته، فتعلقت الفتوى بأسباب خارجة على الشرع، وبعيدة عن تحقيق المناط المتكئ على استنباط الأحكام الشرعية من تجلياتها النصية والقياسية المؤصلة بقواعد الشرع وتخريجات الثقات من علماء المسلمين، ومن مشاكل الفتوى تعددها وانفلاتها عن التقنين والمرجعية المعتمدة الموثوق بها واتساعها في تناول الظواهر الحياتية على رؤية متعددة، كل فرد يصدرها معتمدًا على ثقافته المحدودة حتى بلغ الأمر بالأميين الذين لا يجيدون قراءة الفاتحة من أوائل المتصدرين للفتوى.
وعلى الرغم من هذا كله فما زال هناك علماء عدول على مر التاريخ عُرِفوا باعتدالهم وبتحريهم الحق، فلا يفتون إلا بعد إمعان النظر في النصوص الشرعية بعيدًا عن الهوى وحظ النفس، فقد جعلوا الحق نصب أعينهم، فما حالوا عنه ولا مالوا، بل عضوا عليه بالنواجذ، ويستهين أحدهم بالموت في سبيل الحق فلا تخرج من فيه أيّة فتوى ترضي الحكام والأهواء من بني البشر، ولقد ظل هؤلاء منارة للحق بعيدًا عن ذلك النشاز من الناس، وهم كثر، أفصح عنهم التاريخ، وسجّل مواقفهم في سطور من نور، وما زالت تلك التركة يحملها الخلف عن السلف إلى أن يزول هذا الكون، وتقوم قيامة الناس لربّ العالمين.
وأخيرًا.. يجب أن نستوعب المشكلة العويصة التي تكمن في قصور الفهم وتحقيق المناط حول تنزيل الفتوى على الواقع الذي نعيشه بعيدًا عن التغريد خارج السرب أو تعليق المشاجب على أخطاء الآخرين، فالعيب استغلال أخطاء الآخرين في الدعاية والتشويه، وذلك نفق طويل إذا سلكناه، من الصعب الخروج منه، بل يجب على الأمة الإسلامية - جمعاء - النظر في هذه المسألة عن كثب، ومعالجتها على ضوء الثوابت من القرآن والسُّنة، ونُزيل عنها اللبس وما غشيها من ضباب الهوى والحزبية ومتابعة أهواء الحكام، ثم ننظر في النصوص الشرعية، ونحاكم على أصولها قضايا الواقع بعيدًا عن الاجترار والسلبية، فديننا شامل كامل لكل قضايا الحياة، لكن لسوء الفهم من حامليه جعل الأعداء يطعنون في كماله وشموله، فلا نرتبك في تنزيل الأحداث ووزنها بميزان النصوص وتخريجها على ضوء الأصول والقواعد، وعلينا أن نمحص الأدلة المقررة على أصول الكليات والجزئيات، ونميّز بين العموم والخصوص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ، كذلك يجب التمييز بين الواجب والمكروه، ونصدر عن إيضاح كامل للمباح وتطبيقاته، ونصدر عن نظرة واقعية في تحري الواقع غير متأثرين بفيروس الاحتقان والطائفية أو التعصب لجماعة أو حزب أو مذهب، ولا نفتئت على النصوص الشرعية، ولا نُحمّلها ما لا تحتمله من دلالات شاذة، ويجب القبول بالفتوى ما دامت تصدر عن عدل متحرٍّ للحق قد بذل وسعه في تحقيق المناط، وما دامت داخلة تحت قاعدة شرعية لها دلالة تطبيقية في باب المباح، أو أُصّلت تأصيلًا شرعيًّا على ضوء الكتاب والسُّنة، كما يجب نبذ الغلو والتعصب، ونُحسن الظن بالآخرين ما داموا في نطاق الحق، فالمخطئ له أجر، والمصيب له أجران حتى نحقق الوحدة الإسلامية المقصودة شرعًا وعقلًا وواقعًا، ونقف أمام التيارات الفكرية الحاقدة التي تستهدف عقيدتنا وأمننا ووطننا. والله من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.