|
سي. إس. لويس، في كتابه "رسائل سكروتيب" سكرتيب اسم الشيطان الذي كتب إلى ابن أخيه رون وود ‘ الشيطان الآخر، واللذين اختارهما الكاتب ليلعبا دور أخيلته الخصيبة، كتب سكروتيب زهاء مئتي صحيفة إلى رون وود، منها كيف يُضِل عبداً عاد إلى الله تائباً والتمس طريق النجاة، في نصية من أجمل ما حواها الكتاب، يقول له : هذا التائب الإنجليزي له أم عجوز، تعاني من آلام المفاصل، ولسانها سليط، متطلبة، صعبة الإرضاء، ألهمه ولابد أن يفعل،-لكونه تائب- ألهمه أن يدعو لها، وأن يجعل دعواته كلها روحية، ففي هذا فائدتان :
الأولى : أنه لن يُعنى بآلام مفاصلها.
الثانية: لن يدعو لأمه الحقيقية،وإنما سيدعو لعجوز وهمية يخالها أمه.
لقد كان حرياً بذلكم التائب أن يلتفت إلى أوجاع أمه، أمه الحقيقية المصابة بالأوجاع والتباريح، وأن يسعى جاهداً في رفع أوجاعها وتباريحها، لا أن يهتم بالأدعية التي ليست أكثر من لغوٍ في موقفٍ كهذا، لا تبدي معنى ولا تعود بثمرة.
أمنا العجوز، هي تلكم البلدة، أو ذلكم الوطن، الذي يتصارع باسم أوجاعه وجراحه المثخنة، أولئك التائبون على ناصية أوراقهم وأقلامهم، أقلامهم التي تقطر قحة لشدة قذع بعضهم لبعض، وتلك أوراقهم التي تتغذى أناهم العُليا من خلالها، كلٌ منهم يرى حاجات الوطن في وطن خياله، لا في حقيقة الوطن، في وهم ما ينبغي أن يكون من وجهة نظره، لا في ما هو كائن الآن، ولأنهم كُتّاب ومشهورون يصرون على رؤيتهم، على وطنهم المصنوع هناك، في رؤوسهم، أو بشكل أدق يصرون على الوطن العالق في البأو والتمظهرات، لا في الواقع، فسكروتيب يغريهم ويلهمهم بأنهم تائبون، أي كتاب، ثوّار، مشهورون، وهم بدورهم يستحسنون ذلك جداً، ويتلقفون ذلكم الإلهام بترحابٍ معمّقٍ للنرجسية التي تتعاورهم.
دعاؤهم مناكفات صبيانية، وإغراضيات نوكى، لا يوافقها النجباء، ولا يسرح في مدارها البلهاء، حيث لا إغراء في التعري، فالمرأة تكون مخيفة حين تتعرى على حد تعبير فيكتور هيجو، وفي ظني أن منظر الذكر أكثر بشاعة وفظاعة، خاصة إذا ما كان من قبل متلحِّفاً وعلى رأسه تيجان الوقار، وبين أصابعه حروف لامعة، أو مواقف باذخة، لطالما شهدت له في مقامات أخرى غير هذا المقام.
إن ما حفزني لكتابة هذا المقال، هي كلمة ويح، لا كلمة ويل، ومن المعلوم أن كلمة الويح باب رحمة، والويل باب عذاب، فالأولى تُقال لمن أوشك أن يقع فيما لايليق به، شفقة به ورثاء لحاله، أما الويل فتقال لمن يستحقها. وهي نداء لمنع الولوج في الوقوع المتراكم، لا الوقوع الاستثنائي فحسب، ولست استقصد رفع قدر هذا أو أنزل من قدر ذاك، كما أنني لست مهتماً للشخوص مطلقاً، ولنقصها العاري، أو لكمالها عند ذاتها، "لو أن الإنسان خلق كاملاً لما احتاج إلى أن يطمع في الكمال"طه حسين.
إنما اهتمامي في الأصل بالجانب الأخلاقي الذي تنافى من أذهان من كانت بهم المواقف أجمل، حتى تداعت ألفاظهم في غير حميد، فطفحت وفاحت علانية، وقد كان الأولى التظافر وبناء رؤية واحدة، من أجل الوطن كحقيقةٍ لا كخيال، بعيداً عن الحسد والغيرة ونواقض الشخصية، وإن كان لايخلو أحد من ذلك، ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه.ابن تيمية.
فيلمٌ في ستينيات القرن الماضي، يحدثنا عن أسقفٍ لطالما بذل وسعه في جمع التبرعات لبناء كنيسة، وكان يدعو الله دائماً أن يُنير سبيله، ويشاء الغيب أن يرسل له مَلكاً يتمثل في شكل إنسان، إسمه في الفلم دادلي، فلم يكتشف الأسقف أنه ملك إلا بعد أن برهن له، فصدق.
ذهب الملك ليقنع أكبر متبرعة أن تكف عن بسط يدي الندى للأسقف، لغرض تخليد زوجها المتوفي، وأن تضع أموالها في الأكباد الجائعة، فاقتنعت. في نهاية حكاية فلم دادلي. الملك أخبر الأسقف بمغادرته، فقال الأسقف مستغربا كيف تغادر ولم تستجب دعوتي؟
قال له بلى، أولم تدعو بأن ينير الله سبيلك.. وقد فعلت.
يعلق الدكتور عدنان إبراهيم بقوله " إن ذلك الأسقف لطالما كان يخادع نفسه بالدعاء، بقوله أنر سبيلي، وكان يبتغي بذلك بناء الكنيسة كي يخطب في حشد أكبر، وأمام أناس أكثر، ولكن وإن خدع نفسه إلا أنه لم ولن يخدع الله.. وقد أنار سبيله بأن لم يبن له كنيسة، بقدر ما جعل المال يدر على الجوعى.!
ما الكنيسة التي يدعو لأجلها أولئك في صلوات أقلامهم، ولهج مكنونهم؟!، إنها الذاتية التي ترى قدّ السرو أعوج، والشمس والقمر جفاء، والبحر والمنجم فقيران، والعرش والفلك حقيران، قياسا إلى مجدهم وعلوهم، حتى استحالت قلوبهم إلى عجينة وأدمغتهم إلى مخاط، فمضوا في تهافتهم ذاك يشبعون جوعى الوعي الذين يتابعونهم، ويُكبِّرونهم، ويُبجِّلونهم، فانقلبوا بعد ذلك يُكبِّرون الوطن ويكبرون الأخلاق، ويكفرون بدعاء الكتاب أولئك، الذي لم يكن في الأصل أكثر من إدعاءات فارغة، ولا أفرغ من كاتب يتجاوز حدود الأدب مع الله بنتفاخية العلم، فيخال ذاته مركز الكون، وقطب الوجود.
في الأربعاء 18 يناير-كانون الثاني 2017 08:38:03 م